طارق أبو مطر
سجن نفحة
تمّوز 2021
منذ ثلاثة شهور، وأنا أتربّص لكتابة هذا النص، أو ربما نصٍّ آخر، غير أن محاولاتي سَرعانَ ما تعثّرت لأسباب عديدة، رغم أن عبث الكتابة لم يعد يشكل لي عائقاً كما كان في السابق.
كانت أغلبُ العثرات تأتيني على شكل انتظارات أو لحظاتٍ انتظارية صامتة، لكنها غيرُ خاوية. بل محتشدةٌ هذه الزحمة. وهذا بالضبط ما يجعل الزمن هنا يجري سريعاً ككلماتٍ تتدفق من بين ثنايا عقلك بسيولةٍ كالماء، أو يجعله بطيئا ثقيلاً بليداً كحركة الأشجار المترنّحة بفعل الرياح التي توهمك بحركتها، ولكنها في الحقيقة لا تتقدم، وفي حالة خُواء. اجتاحتني رغبةٌ جامحة بالكتابة عن المستقبل، إلا أن سطوة الحاضر تتشبّث بعقلي أو ربما أنا من يتشبثُ بها؟
أولى عثرات الكتابة جاءتني من الشخص الذي دفعني لكتابة هذا النص، لأنها لا تعلم أن كل واحد منا يجلس على حافة زمن متساوٍ كرونولوجياً، لكنه مختلفٌ من حيث القيمةُ والجوهر، وحتى لا أُطيل عليكم السرد، دعوني أقصُّ عليكم حكايتي مع الزمن ومع داليا.
بعد عَناءٍ مستمر وطويل، وجهود مُضنية، وتكلُفة خيالية، تمكن الأسرى من توفير وسيلة اتصال لهم من داخل السجن، استخدمتُها في أحد الأيام للتواصل مع صديقي بهدف إتمام بحث كنا قد تشاركنا في كتابته هنا، إلا أن السجّان قاطع مشروعنا وقام بالإفراج عنه بكفالة، فاتفقنا أنا وإياه قبل أن يعانقَ الحرية بأن نواصل إتمام البحث عبر التواصل عن بُعد، ولهذا الغرض اتصلتُ به، وفي خِضمِّ حديثنا أخبرني عن إمكانيةٍ مُتاحة لنشر نصوص أدبية، مقترحاً كتابة شيء ما والعمل على نشره.
صراحةً، لا أعلمُ من أين جاءت صديقي الثقةُ بقدرتي على الكتابة الأدبية، علماً أنه كان من أسلطِ الساخرين بركاكةِ لغتي لسنواتٍ خلت! كما لا أعلمُ من أين جاءتني الشجاعةُ لمجاراته. حيث وافقتُه الرأي. طلبتُ منه التفاصيل، فراح يُسهب في رسم لوحاتٍ سمعيةً لم أفهم منها سوى أن عليَّ كتابةَ شيءٍ عن معنى المستقبل. وأن أتواصلَ مع فتاة تُدعى داليا تُشرف على المشروع. أخذتُ الرقم رغم شكوكي حول نفسي ومزاجيّتها التي تأبى الكتابةَ أحياناً. أو حول إمكانية إيصال النص في الموعد المحدد. فالوقتُ هنا مرهونٌ بإرادة الضرورة المتاحة من إدارة السجن، لا إرادتِنا. والضروريُّ المُتاح يعني الإفراج عن أسير في وقت قريب من موعد التسليم. المهم أنني طلبت منه أن يرتّب موعداً للاتصال مع داليا بعد يومين حتى نتشاور في تفاصيل المطلوب.
المستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمست
[ياسمين حاج * إلى الضوء المقبل بين سقفك وأرضي] ~ [فرح صالح % أهلًا بك، لقد وصلت المسرح] قبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلك
(2)
في الموعد المحدد، وأنا لا أضيعُ مواعيدي في السجن، ليس لأنّني صارمٌ على نفسي، بل لأنني لا أملك مواعيدَ وانشغالاتٍ كثيرة، وربما لا أملك مواعيدَ أصلاً. فالحياةُ هنا روتينية وتكرارية ونستطيع القبض عليها بسهولة، والأخطرُ، أن تقبض هي عليك. فكلُّ الأيام متشابهة، وهذا ما يجعلها رتيبةً دائرية، وتسير بحراك إيقاعي معلوم غالباً.
في الموعد المحدد اتصلتُ بداليا رغم ما كان ينتابُني من شعور فاتر تجاه كُلِّ شيء، وهذا ما جعلني أتردَّد بالاتصال للحظات، إلا أنني حسمت تردُّدي كوني اتفقت معها على هذا الموعد.
ولا أُخفيكم أنني خلال هذه المكالمة شعرتُ بطاقة إيجابية في حديثها، الأمر الذي أطال من عمر المكالمة. أخبرتني بتفاصيل الفكر، وقد انعكسَتْ إيجابيتُها عليَّ، وأخبرَتني أن الهدف منوطٌ بكتابة شيء عن واحد من المواضيع التالية: المستقبل، المقاومة، الليل، البندقية. أفكارٌ عديدة جعلتني أفكّر في أفكار متنوعة للكتابة. اتفقنا على التواصل مرةً أُخرى الأسبوعَ المقبل، ثم أنهينا المكالمة التي لم أكن أعلم أنها ستكون الأولى والأخيرة.
بعد تناولِنا العَشاء، جلس كلُّ رفيق منا على “بُرشه” في زنزانتنا الصغيرة، وراح كلٌّ يقوم بما يجزيه وقته. أما أنا فسهَمت قليلاً بمكالمة اليوم، أفكر في خَياراتي الكتابية الممكنة. عن أي مستقبل أتحدث؟ كيف أجمع بين السجن والمستقبل؟! وبأي لغة أتناولها؟ هل أكون متفائلاً جداً وأكتبُ ما يتداوله أشدُّنا تفاؤلاً في أحاديث. بأننا سنحوِّلُ هذه الزنازينَ لمعارضَ وشواهدَ تذكاريةٍ على الحقبة الاستعمارية بعد التحرُّر. أعتقدُ أن معظمكم فكَّر في هذه المسألة من قبل، بل إن أكثرَكم تشاؤماً فكّر فيها، فهذا ببساطة ما فعله كلُّ شعب بعد تحرُّره من مستعمِرِه. لكن ما الجديد في كتابة هذه الفكرة؟ وأين إبداعيّتُها وجاذبيّتُها وقدرتُها على الإدهاش. لذلك لم أشأ أن أضيّعَ وقتكم الثمين، مع أنني أُدرك أهميتها، كونُها تحفّزُ الخيال، والخيالُ المتوقّد يداعب روحَ الإنسان ويجعلُه يتلمَّسُ آفاقَ الغد ويفتحُ له نوافذَ الحُلم والأمل، وهذا أجمل وظائف الكتابة عندما تحاكي الخيالَ وتجاوره لتمنحَ الواقعَ فرصةً أُخرى للحُلم.
التفتُّ ناحيةَ التلفاز فشاهدتُ دعاية لفيلمين يتحدثانِ عن السجّان والهروب سيُعرضان غداً. قررتُ متابعتهما، فربما يمنحانَني مساراً للهرب من قسوةِ الواقع والقفزِ نحو المستقبل.
المستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمست
[عبد الرحمن شبانة # يتشابهان] ~[محمّد جبالي ^ القبّة تظهر في البحر] قبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلك
(3)
حلَّ موعد مكالمتي الثانية مع داليا، وكنا قد اتفقنا عليه في مكالمتنا الأولى، استبدلتُ موعدَ مكالمتي من فترة الصباح بالظهيرة، كونُها تناسبها أكثر، مع أنني اعتدتُ الحديث أوقاتَ الصباح، وهو ما سيسحب من رصيد الوقت المُخصَّص لي، إذ إن وقت المكالمة في الصباح متاحٌ أكثرَ مما هو في المساء أو وقتَ الظهيرة، لقلّة الراغبين في الاتصال في هذه الساعات، فمن قُرابةِ السبعَ عشرةَ دقيقةً صباحاً ينخفضُ إلى عشْرِ دقائقَ ظهراً، وإلى خمسِ دقائقَ مساءً.
في هذا اليوم، ولِسوء حظّي قامت إدارة السجن بإطلاق صفّارة الإنذار بعد الظهر مباشرةً، ما يعني إغلاقَ كل الأقسام واحتجازَ الأسرى داخلَ زنازينهم، وهذا ما يُجبرنا على الاحتياط بإخفاء الهاتف خَشيةَ كمين قد تكونُ إدارة السجن تنصبه لنا تحت ذريعة التدريب. يومَها انتهى التدريب بعد انقضاء ثلاث ساعات، أي بعد مرور موعدي مع داليا. فقررتُ أن أؤجلَ الاتصالَ بها كون الوقت المتبقّي لي لا يتجاوز الدقائق الخمس.
المستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمست
[سارة أبو غزال @ تفضيل] ~[بدر عثمان + بكينا قليلًا، مشينا قليلًا، ثُمّ ذهبنا كلٌّ في طريقهِ] قبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلك
(4)
أنهينا جلسةَ المساء، ونهضتُ وأشعلت التلفاز لأُشاهد فيلمَي الهروب من السجن، كانت قصتُهما تدور حول رجل يُتقن الهروب من السجن مهما كانت إجراءاتُه شديدة، ما دفع السجون على أن تتعاقدَ معه حتى تستطيع اكتشافَ الثغرات في نظامها الأمني. في البداية يتم اعتقالُه ويُزجُّ به في السجن دون أن يعرف أيٌّ من الحراس صفته ومُهمِّته، ثم يبدأ بالتحضير والإعداد لخطّة الهروب.
الجزء الثاني يتحدث حول ذات الفكرة، ولكن مع إضفاء الخيال العلمي حول استحداث سجن مستقبلي بإجراءات معقّدة وشديدة. في الحقيقة وجدتُ أن الفيلمين مبتذلان إلى حد ما، إذ يهدفانِ إلى تغطية مساحة الترفيهِ والإثارة والعنف التي تعتمد عليها فلسفةُ “هوليوود”، ومع ذلك لا أُنكر أنهما قد حملا فكرةً مفيدة، وإن لم تكن كافية، أو مستكمَلة حول كيفية الهروب من السجن، يلخّصُها بطلُ الفيلمين بثلاث نقاط:
أولاً: عليك أن تعرف جيداً نظام السجن، برنامجَ تبديل المناوبات، وعددَ الحراس وأماكنَ تواجدهم.
ثانياً: يجب أن يكون لك مساعدون من خارج السجن يمكنك الاعتمادُ عليهم.
ثالثاً: لا بد أن تجدَ لك مساعداً من داخل السجن ويفضَّلُ أن يكون طبيبَ السجن، كونه يحمل بقلبه عاطفةً إنسانية تستطيع استغلالَها.
استهوَتْني الفكرة، خاصةً مع اهتمامي بقصص هروب بعض الأسرى القلة/ والذين تم القبضُ على غالبيتهم، قبل أو خلال أو بعد محاولة الهروب، فيما قلةٌ منهم تمكنت من الفرار دون أن يتم الإمساكُ بهم واستُشهد جزءٌ منهم فيما بعد. ولكن السؤال الذي سوف يَشغلُ بالي في الآونة الأخيرة: لماذا تراجع تفكير الهروب من السجن في السنوات الأخيرة؟ لستُ قادراً على تخيُّل أسير مكبَّلٍ بحُكمٍ عالٍ دون أن يقضَّ هذا الأمرُ مضجعَه كلما اختلى بنفسه.
تلك الليلة، وقبل أن أنام، عادت فكرةُ الفيلم إلى مُخيّلتي، وسمحت لخيالي أن يداعب فكرةَ الهروب، لأنها تروق لي، كونُها مغامرةً مثيرة، فمن حق كلِّ مَن سُلبت حريتُه أن يفكر فيها، أو يحلم بها، خاصة أنني سئمتُ الترهُّطَ الفكريَّ الذي أُمارسه كلَّ يوم هرباً من بطن هذه الآبار الأسمنتية السحيقة. استلهمتُ أولَ خُطوتين، أما الثالثةُ فكانت هي الأصعب، حيثُ استحضرتُ صورةَ طبيبَي السجن، فعادت لي مشاهدُ التحقيق في معتقل المسكوبية، فأثناءَ التحقيق معي ومع رفاقي جِئتُه مرةً منقولاً على عربة بعد جولةِ تعذيب. نظر إليَّ باشمئزاز من بعيد، ودون أن يتكلَّف عَناء المُعاينة، أشاح بمنظره نحو السجّانين وضباط المخابرات قائلاً: ليس به شيء، أعيدوه للتحقيق. جملةٌ ردَّدها أمام كُلِّ رفاقي الذين توافدوا إليه تحت سياطِ التعذيب. شتمتُه، وشتمتُ ذكراه، ثم انتبهتُ لتأخُّر الوقت. سألتُ نفسي، هل تريد الهروبَ فعلاً؟ فأجابت: لا. أوقفتُ جنوني المتخيَّل، وقلت قطعتُ نصفَ الطريق… وبقي نصفُها الآخَر، وأطفأتُ النورَ وخلدتُ للنوم.
المستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمست
[نوّاف رضوان ’,’ عندما دهستنا الحداثة] ~[حكيم خاطر [] ذلك الذي لم يصبح شيئًا بعدما كسرت أغلاله] قبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلك
(5)
رتّبَ لي صديقي موعداً آخرَ للتواصُل مع داليا، على أن يكون يومَ الإثنين أو الأربعاء، وتحديداً وقتَ الظهيرة، كونُها مشغولةً باقي الأيام فوافقت. ثم رتَّبتُ مع أيمن عامل الغزال -الاسم الحركي للهاتف- أن ينقلَ موعدَ مكالمتي لظهيرةِ يوم الإثنين. وحتى أُحيطكم علماً، سُمّيَ الغزالُ غزالاً حتى يتجنبَ الأسرى ذكرَ كلمة “تليفون” أمام السجانين ولو سهواً، فالهواتف تُهرَّبُ بطرق مُعقّدة ومُكلفة كثيراً، وبالتالي فهي محدودة جداً ومستَهدفة باستمرار. والدارجُ أن تشن إدارةُ السجن حملاتِ تفتيش مكثّفة عبر وحداتها الخاصة، بُغيةَ إيجاد الهواتف ومُصادرتها.
في القسم الذي كنتُ محتَجَزاً فيه توفّرت أربعةُ هواتف، ويوزَّع وقتُها بالتساوي بين مئةٍ وستين أسيراً. بواقع ثماني ساعاتٍ خلال أوقات “الفورات” فقط، تحسُّباً لأي هجوم مُباغتٍ من قِبل السجانين.
المهمُّ، اتفقتُ مع أيمن أنني أريد استخدامَ هاتفٍ ذي صوتٍ واضح كوني أريد التحدُّثَ بأمر مهم، لأن غالبية الأجهزة اهترأت من كثرةِ الاستخدام، علاوةً على التشويش الذي تركّبه إدارة السجن بهدف التنغيص علينا، ولمنعنا من التواصل براحةٍ وسهولة، ما يُخفّضُ من جودة المكالمة.
ولحماية الأجهزة والحفاظ عليها أطولَ مدةٍ ممكنة، يتم انتقاء شخص محدد للضغط على كبساتِ الأرقام، ويفضَّلُ أن يكون من بين أصحاب الأصابع المرشوقة والمشهود لها بخفة الحركة، ولديه القدرةُ على التعامل مع لوحة الأرقام الدقيقة، بما يراعي “رقّة” الجهاز. قد تسخرُ مما أقول، إلا أنه حقيقي، فالهاتف صغير جداً، بحجم إصبعين متجاورين، وغالبية الأجهزة تُدعى صرصوراً، وبالعادة يحصل الهاتفُ على اسمه من لونه مثلاً، الصرصور الأحمر، الصرصور الأزرق، وهكذا.. وأحياناً يتم اختصار ذلك “الأحمر”، “الأزرق” ويكتسب كلُّ جهاز لونَه من لون عُلبة الكرتون التي استُخدمت لتغليفه، لأنه يهرَّبُ إلى السجن عارياً من بطاريته وغطائه، وتقع على الأسرى مسؤوليةُ إعادة تركيبه.
عندما اقترب موعدُ مكالمتي، أومأ لي أيمن من الساحة بحركة من رأسه، فهرعتُ مسرعاً. في طريقنا إلى مكان الجهاز، قال لي بلغته المفخّمة: “اسمع يا رفيق، راح أحكيلَك عن جهاز يكاد يكونُ مرئياً”. انفجرتُ ضاحكاً لظرافته. جلستُ بجوار الهاتف وأعطيتُه الرقم، كبس الأرقام بيده وبدأ رنينُ الحرارة يدبُّ في أُذني، إلا أن داليا لم تمنحه الحياةَ على الطرف الآخر بإجابتها، فكررتُ المحاولةَ مرةً ثانية، ولكن لم تكن أفضلَ حالاً من سابقتها، فقلتُ يبدو أنها لم تلحظ رنينَ هاتفها، فكررتُ المحاولةَ مرةً ثالثة حتى بُحَّ صوتُ الجهاز من كثرة الصُّراخ.
فقال لي أيمن “حرام يا رفيق على وقتك، لقد قتلتَ ثلاثَ دقائقَ من عشر، ومن الأفضل أن تغير الرقم حتى لا يضيعَ عمرُ مكالمتك سُدىً. فقلت له، معك حق، وأعطيتُه رقم أُمي التي منحَت الحياةَ لحرارة الاتصال من الرنّة الأولى!
المستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمست
[نور أبو عرفة 0 عن عنايات الزيّات وصقر القتيل ومدفونات أخرى] ~[إيمان شرباتي \ عن لحظة أسمها أيّار 2021] قبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلك
(6)
حاولتُ الخلودَ للنوم، إلا أن شبْح الأفكار بقي يطاردني، ومنعني من الاستسلام للنوم. إحدى إشكاليّاتي المعقّدة، عندما ينشغلُ تفكيري في أمر ما، يستحوذُ عليَّ طَوال الوقت، لا أستطيعُ الانفكاكَ منه إلا ببعض الإجابات الشافية التي غالباً ما تسكّنه مؤقتاً.
ماذا يعني السجنُ والمستقبل، واحدٌ يحاصِر بكل ما لديه من قوى، والآخرُ يسعى للانعتاق بكل ما فيه من إرادة. صراعٌ مستمر. كنتُ قد سألت نفسي هذا السؤالَ قبل خمسةَ عشرَ عاماً، حينها كنتُ مراهقاً، أحمل على كتفيَّ ستةَ عشرَ ربيعاً، لم أكن أتصورُ وقتها أن السجن سيبقى لأكثر من خمس سنوات قادمة، يبدو أنني بالغتُ في تفاؤلي؟ بصراحة، لم أعِ حقيقةَ هذه المبالغة إلا قبل عامين. حينما كنتُ في قاعة الزيارة أنتظرُ إطلالةَ أُمي الحبيبةِ وسط حشدٍ من الأسرى الذين يعيش كلٌّ منهم انتظارَه الخاص. لمحتُ أسيراً كهلاً يقف قِبالتي على مسافةِ أربعة أسرى. تفرَّستُ في ملامح وجهه، خالجني شعورٌ عميق بأنني أعرفه جيداً، وقد التقيتُه خلال أحد اعتقالاتي السابقة. ودَدتُ الذهابَ إليه واستجلاءَ الأمر، إلا أن شعوراً بالحَياء تملَّكني وحبسَ السؤالَ على لساني، فإذا كان هو يذكُرني وأنا لا أذكرُه سيكون موقفاً مخزياً، يُشعرني بالإحراج كما يُحرجه بالاستياء.
تداركتُ الأمرَ بسؤال شاب عنه كان رِفقَتي، فقال لي “هذا ثائر، أحدُ مقاتلي “الكتائب” الذين اعتُقلوا في نهاية انتفاضة الأقصى” تذكرتُه فوراً، عشنا سوياً في ذات القسم قبل ثلاثةَ عشرَ عاماً، كنتُ صغيراً، حديثَ الاعتقال، وهو كان شاباً وَدودَ المَعشر، وطيبَ الروح، صادقَ القلب واللسان. حينها كان يتوقع حكماً عالياّ، هل خرج وعاد مثلي ومثل الكثيرين؟ أم أنه لا يزالُ بذات الاعتقال. لقد تغيَّرت ملامحُه كثيراً، فالتجاعيدُ تحاصر عينَيه ووجهَه.. يغزو الشيبُ رأسه، غيرَ أن ابتسامتَه المعهودةَ لا تزال تلتصقُ بوجهه. اندفعتُ نحوَه بشوقٍ وبشغَف.
– ثائر مرحبا
– أهلًا أهلًا
– كيف حالك؟
– منيح كثير، شكرًا إلك.
تفرسني بعينيه المتوجستين محاولاً تذكر من أكون.
– بعرف يمكن انت مش متذكرني، إحنا كنا سوا قبل 13 سنة في سجن عوفر قسم 15، اسمي طارق.
رحب بي مجاملا رغم أنني شعرت بانه لم يستطع ايجادي في ذاكرته المرهقة بعد، فقد مر في تلافيفها آلاف الأسرى هذه السنوات، ولأخرج من لحظة الوجوم التي هو فيها سألته:
– شو لساتك بنفس الاعتقال من ١٣ سنة؟
– آه والله نَفْسه، بس نَفَسُه الي انقطع مو نَفَسي. ضحك بصوت مسموع.
اغتبطت لمعنوياته المرتفعة، وشاركته ضحكة الصمود.
– ليش قديش حكموك؟
– 20 سنة.
– الله يعطيك العافية يا عمي، فدا هالوطن…
– الله يعافيك ويعافي هلوطن من أمراضه
كان مُحقاً، لم أدرِ ماذا يجب أن أقولَ له. تداخلَت مشاعري المُلتاعة، شعرتُ بأنني أنكمشُ من كمَدي عليه. حاولتُ الابتسامَ والتماسكَ قدْرَ المُستطاع، إلى أن اقتحم الأهلُ فجأةً قاعةَ الزيارة، وانتشلوني من حزني الذي كاد ينكشفُ أمامه.
ذهبتُ لأُجالسَ أُمي من خلف الزجاج، وأتقصّى أخبار الأهل، بقيتُ طَوال مدة الزيارة غيرَ قادرٍ على الالتفات نحوَه من غير مزيجٍ مؤلمٍ من الأحاسيس الغاضبة والحزينة. لقد أصبح وجهُه حزيناً، تكلّله هالةٌ كبيرة مشرقة من الشعر الأشيَب، ويُضفي عليها صفاءُ عينَيه بريقاً نورانياً.
ثلاثةَ عشرَ عاماً وهو لم يبرح ضيقَ المكان، صنع عالَمَه بين أربعة جدران. مرَّ شريط ذكرياتي خلال السنوات المنصرمة أمامي كلحظة بَرق. كيف قضيتُ الزمن وكيف قضاهُ هو؟ زمنٌ واحدٌ بوقتِه الرقمي، إلا أنه مختلفٌ كلياً بتجاربه وشُخوصه، أتراحِه وأفراحِه. تقافزت في ذهني كلُّ التجارب والأحداث الجميلة التي عشتُها. بينما هو مصمودٌ هنا في هذا الزمن التكراري، يعيش فيه ولا يحياه.
ماذا يعني المستقبل، أليس هو زمنَ الماضي والحاضرِ متصلاً مع الغد. أنا وهو سنصلُ إلى المستقبل، ولكن بزمنين مختلفين تماماً، عُمرينِ مختلفينِ تماماً، تجربتينِ متباعدتينِ حدَّ التوازي. فزمنُ السجن وعمرُه هو زمنٌ سكونيٌّ على الرغم من كثافته.
المستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمست
[تغريد عبد العال $ عندما يتحوّل المألوف إلى منديل شفّاف] ~[علي مواسي % تايلانديّ في سَهْلِ البلد] قبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلك
(7)
جاء الأربعاء يحملُ معه الموعدَ الآخرَ لداليا، اتفقتُ مع أيمن أن يوفرَ لي جهازاً “يكادُ يكون مرئياً” فطلب مني أن أنتظرَ قليلاً، بقيتُ أتمشّى فوق الجسر الذي أُطلق عليه مجازاً “الكورنيش” كونُه يعطي مساحةً وشعوراً منفصلينِ عن السجن كلما تمشّيتُ هناك. وقفتُ بابَ زنزانتي وتأملتُ أغصان النعنع التي حاولتُ استنباتَها بالقطن، علّي بذلك أقهرُ قليلاً هذا الأسمنتَ المسلّحَ الذي نعيش فيه لمنحهِ لمسةً من الطبيعة، اذ يُحرّم علينا أن نُقيمَ أيَّ علاقة في هذا المكان مع النباتات أو الحيوانات وحتى الحشرات، حتى لا نشعرَ بإنسانيتنا، فيغرَّمُ مالياً أو يُعاقَب انفرادياً كُلُّ من يخالف ذلك ويُضبط متلبّساً بتربية عصفور أو زراعة نبتة. حتى التراب بتنا نشتاقُ للونِه ورائحته ومَلمَسه، فأنت مُحاصرٌ بين ساحةٍ حمراءَ قانيةٍ، وأبوابٍ زرقاءَ وحديدٍ سكنيٍّ وجدرانٍ رمادية، فهذا المكانُ فقيرٌ في كل شيء، حتى في الألوان.
جاءني أيمن ونظرُه لا يزال معلقاً بإناءِ النعنع، وقال لي “وين صافن”؟
فقلتُ بالنعنعات، حطّيت فيهم قطن وأعقاب سجائر، وكل يوم بسقيهم وبطلّعهم عند الشمس ومش زابطين، شو القصة؟
ضحك وقال، أنا بسّ زرعت نعنع قلت “بسم الله”، وإنتَ شو قلت؟ “باسم الشعب؟ خلي الشعب يطلّعلَك إياهم تانشوف. ونفضَ يدَه بحركةٍ انسيابيةٍ من أعلى إلى أسفل، وهو يقول محفزاً إياي: يلّلا معي، أجا دورك.
ضحكنا سوياً، وذهبنا إلى الزنزانة التي يوجد فيها الهاتف، وأعطيتُ أصابعه الرقيقة رقمَ داليا. حاولتُ ثلاثَ مرات، إلا أنها لم تُجب، بدأتُ أحقدُ وزئبقُ الغضب يرتفعُ على مدى روحي. وراح لساني يُتمتمُ رغماً عنّي: هل تعتقدُ أن لديَّ هاتفي الخاص؟ وأنه بإمكاني الاتصال بها وقتما أشاء؟ وكأنني أملكُ أفضليةً على مئةٍ وتسعةٍ وخمسينَ أسيراً غيري. ألا تعلمُ أنها مكالمة مهرّبة من السجن؟ والوقتُ المُتاحُ بأفضل حالاته لا يصل سبعَ عشرةَ دقيقة حِصَّةَ الواحدِ فينا، وعليه أن يتدبرَ خلالها كلَّ احتياطاته.
المستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمست
[عبد المعطي مقبول @ حوارات من /ترنيمة رجوع/] ~[آلاء قرمانــــــ من الدفاتر؛ــــــ ] قبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلك
(8)
سهرتُ تلك الليلة وتلبّسَتني فكرةُ الحديث عن المستقبل مرةً أُخرى، وراودتني هواجسُ الربط بينه وبين ولادة الحرية، وهل سيأتي الغدُ ونحن أحرار؟ كيف سيكون فعلُ التحرُّر في المستقبل؟ خاصةً وأن أساليبَ ووسائلَ الهيمنة تتصاعد وتتطور. فالتكنولوجيا وتسارُع وتيرةِ تطوُّرِها تقف حائلاً أمام حريّتنا، وقد تكون عاملاً مساعداً لها.
يدور الحديثُ هذه الأيام عن محاولة زرع رُقاقات إلكترونية في جسد الإنسان، مهمتُها تشكيلُ ذاكرة إضافية له بجدارة، على أنها ستساعد في إتمام مُجمل العمليات المعرفية. وهذا الهاجسُ يثير لديَّ تساؤلاتٍ مزعجةً حول إمكانية السيطرة على عقل الإنسان وتوجيهه بواسطة هذه الرقاقات، ويُقلقني أكثرَ إمكانيةُ اختراقِها في الصراع الدائر بين قوى السيطرة وقوى التحرُّر، فما هو مصيرُ الإنسان إذا أصبح التحكمُ بسلوك البشر ممكناً؟! وهذا يجعل من سؤال الحرية والمستقبل سؤالاً يؤرِّقُ مضاجعَ كلِّ ساعٍ لها.
كم هو مخيفٌ هذا السيناريو، كونُه يوحي بمستقبلٍ مظلمٍ للإنسان وسعيِه إلى الحرية والعدالة الإنسانية. إذ يغدو النظامُ لا يسيطر على وسائل الهيمنة والأدلجة الخارجية فقط، بل يستطيع التحكمَ بسير عمليات التفكير داخلَ دماغ الإنسان. حينها لن تحتاجَ الأنظمةُ إلى سجون، فالسجنُ في الرأس، وستتمكنُ من قتل فكرة التمرُّد في مهدِها، وسنصبحُ مجردَ “روبوتات” بأيدي الحكوماتِ ورأسِ المال والاستعمار، وسيصبحُ السجنُ يسكنُنا ولا نسكنه، ولكن هذه المرة حقيقةً لا مجازاً.
صحوتُ فجأةً من تيهاتي، ما الذي أفكرُ فيه؟! ما هذا الهراء؟! لا، لن يسيطرَ “الروبوت” على الإنسان، ونحن لن نقبلَ بذلك. الإنسانُ أسمى. نهضتتُ من “البُرش”، غسلتُ وجهي، وتناولتُ مجلتَنا الحزبيةَ الداخلية، وفتحتُ على مقالٍ حول “الشاباك” وقدراتِه التكنولوجية الحديثة. التهمتُه بنَهم وبسرعة. شعرتُ بازدياد الحصار حولي كلما قرأت أكثر، وبدأ ينتابُني قلقٌ مكتوم، أغلقتُ المجلة وشتمتُ محرِّرَها. استفحلَتْ بي رغبةٌ وحشيةٌ للنوم، ولكنَّ القلق لم ينَم. كيف ينامُ والسجن يوقظِ كل أشكال القلق حولَك؟ السجنُ يضعنا في مواجهة القلق دائماً، ومن ينتظر ومن ينتصر يمسكُ بأطراف المستقبل.
المستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمست
[محمود الشاعر ^^ لا أتوقّف عن الركض] ~ [أهلًا بك، لقد وصلت المسرح % فرح صالح] قبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلك
(9)
تواصلَت محاولاتي الفاشلة للاتصال بداليا لأنها كانت تعتقد أنه عليَّ أن أتصلَ في الوقت المناسب لها. هي لم تقل ذلك علانيةً، إلا أن سلوكها كان يوحي بذلك. قررتُ إعادةَ الاتصال بها مجدّداً، فهي لا تقدر أو غير قادرة على استيعاب الوضع بين أربعة جدران، ومع ذلك طلبتُ من صديقي أن يشرحَ لها حالتَنا قليلاً. ورغم موقفي الحاد إلا أنني عذرتُها بيني وبين نفسي، فهي تعيش في عالَم آخرَ غير عالمنا هذا، وفي زمن غير هذا الزمن. هناك لديها أعمالُها وانشغالاتُها التي تشكل كل حياتها. هنا الوقت لا شيء، فيما هناك كلُّ شيء. هناك مزدحمٌ وهنا فارغ، وهناك سريعٌ وهنا بطيء. هناك صلبٌ وهنا سائل.
في النهاية، عذرتُها وشعرتُ بأنني بالغتُ في تحامُلي على تصرفاتها، وقررتُ أن أقاطعَ الكتابة لأُشعرها بأنني منزعج ولكنني متفهم، وعدتُ الانهماك في مشاريعي الخاصة داخلَ السجن.
المستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمست
[محمّد جبالي ^ القبّة تظهر في البحر] ~[ياسمين حاج * إلى الضوء المقبل بين سقفك وأرضي] قبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلك
(10)
مضى شهر كامل دون أن ينتج قلمي جملةً مفيدة أو حتى ضارة، تصارعتُ خلالَه مع القراءة مصارعةَ الثيران، فجاءت قراءتي عرجاءَ متقطعة، وعلمتُ أنني سأنتقل لسجن جديد في غضون شهر من الزمان، كما أخبرنا ممثل القسم أن التفتيش السنويَّ سيكونُ أيضاً خلال هذا الشهر. خشيتُ أن أكتب وتصادَرَ أوراقي، فعشتُ انتظارينِ، النقلَ والتفتيش.
بالمناسبة، السجن هو عالَمٌ من الانتظارات المتتالية، وعلى وجه الدقة، انتظاراتٌ مؤلمة وقاهرة. الحرية، المحكمة، البوسطة، العدد، الزيارة، الفورد، التفتيش، الحمام، الطعام، الرسالة.. إلخ.
تبقى هذه الحالة الانتظارية تنهش عمرك بأنيابها الحادةِ حدَّ الوجع، وتصلك فوق صفيح الانتظار والترقُّب حدَّ الخدَر، فتحولت أيام شهري هذا إلى حبل يلتفُّ حول عنقي ويشد عليّ، إلى أن تم ترحيلي إلى سجن نفحة الذي كان انتقالاً حقيقياً إلى عالَمٍ آخرَ داخلَ عالَم الغياب.
المستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمست
[بدر عثمان + بكينا قليلًا، مشينا قليلًا، ثُمّ ذهبنا كلٌّ في طريقهِ] ~[عبد الرحمن شبانة # يتشابهان] قبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلك
(11)
وصلتُ سجن نفحة بعد رحلة عَناء طويلة، تأملتُه من الخارج عبر كُوَّةِ النافذة الصغيرة في أعلى جدار البوسطة. مبنى قديم في قلب الصحراء يوحي بالنسيان. قال أسير مؤبَّد يجلس بجانبي: “خلف جدران هذا المبنى يقبع عشرات المؤبدات المدفونة أعمارُهم في قَعره. شعرتُ ببلاغة قوله وانسجامها مع الشكل الخارجي للمكان، فالمدفونون هناك منسيّون منذ عشرات السنين”.
خطوتُ أولى خطواتي نحو بوابة نفحة، وأنا أدركُ أنني الآن على عتبة عالَم يختلف عن تلك العوالم التي عشتُها في كلّ اعتقالاتي السابقة.
في أيامي الأولى بدوتُ مشدوهاً كطفل، الإدارةُ وتشدُّدها مع الأسرى، الأسرى وأحكامُهم الطويلة المحمولة على أكتاف أعمارهم، وآثارُها الباديةُ على وجوههم. انقسامُ الحركة الأسيرة. الحرارة القاتلة. ضيقُ الغُرف وضوؤُها الباهت. لوهلةٍ بدا لي وكأنني أسكنُ السجنَ لأول مرة. أعيشُه لأول مرة. شعرتُ بذاتي تسقط فعلاً في هُوّةِ النسيان، وسط الصحراء.
المستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمست
[حكيم خاطر[] ذلك الذي لم يصبح شيئًا بعدما كسرت أغلاله] ~[سارة أبو غزال @ تفضيل] قبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلك
(12)
كانت أيامي الأولى صعبة، وحارةً جداً، شعرتُ بقبضة المكان تحاصرني، إلا أنني تطلعتُ على مَن حولي لأستمدَّ منهم الصبر وأتلمَّسَ طريقه. يقولون بأن سجن نفحة تاريخياً هو سجن الرؤوس الحامية، وحتى أنهم كانوا يعزلون كل القيادات والكوادر التنظيمية والذين يقودون التمرُّدَ في السجون الأخرى بنقلهم هنا. وبمرور الوقت تفاجأت إدارةُ سجون الاحتلال بأنها جمعت أعتى المناضلين في سجن واحد، وسهّلَت التنسيقَ فيما بينهم، ومنه بدأت انطلاقةُ أهم الإضرابات المفتوحةِ عن الطعام في تاريخ الحركة الأسيرة، ولا يزال حتى الآنَ معزلاً لكل مَن تريدُ سلطاتُ السجون معاقبته.
ما يزيد من صعوبة الأمر هو شُح التواصل عبر أجهزة الهاتف المهرّبة، إذ يستطيع الأسير أن يتحدث ثلاثة أيام أسبوعياً لمدة رُبع ساعة على الأكثر في كل مرة، الجرعةُ التي لا تروي ظمأ الاطمئنان على ذويه أو معرفة تفاصيل أخبارهم.
راودني شعورٌ غريب بأن عزلة هذا السجن ستكون مفيدة لي بشكل أو بآخر، انفتحتُ للتعرف على الأسرى هنا، ومعرفة قصصهم، وحكاياتهم، وباشرتُ الاحتكاكَ بهم والتفاعلَ معهم. تعرفتُ إلى مناضلين كانت أسماؤهم تسطعُ في سماء الوطن أيام الانتفاضة الثانية، إلا أن عامل التبدُّل الحاصل على هموم الناس خطف بريقها بعيداً نحو زمنٍ وعالَمٍ مختلفين.
رغم الأحكام الطويلة والمؤبّدة وسوءِ الواقع الفلسطيني، إلا أنني لمستُ كبرياءً وتحدياً في كلامهم، وقرأت الأمل في عيونهم. ربما الحالُ السيئُ يجعل من صاحب القضية أكثرَ إصراراً على ما يريد، لا العكس. استثمرتُ أُسبوعين في التعرُّف على مَن هم في قسمي، وقابلتُ بعضهم لأغراضٍ بحثية، ما جعلني أغرق عميقاً في سريرتهم. أذهلَني عمقُ قناعات جزءٍ منهم، وشدَّتني قصصُهم الإنسانية أكثرَ وأكثر، وكلما غرقتُ في تفاصيلهم غدوتُ أكثرَ سعادةً وراحة فيما بينهم. لم يكد ينقضي الأسبوع الثالث حتى غدوتُ أشعر بأنني أُصادقهم منذ زمن بعيد. غالباً ما كنت أُحادثهم حول أمانيهم وعن المستقبل، وعن أحلامهم التي تطايرت في هواء الخُذلان، أو تقلصت بفعل امتصاص شمس الأيام لإسفنجة أعمارهم. لكنَّ خيوط آمالهم الباقية والمضنية في هذا الأُفق المظلم كانت تمنعهم من الغرق في مستنقع اليأس. إنهم يدركون الحياة كشيءٍ جميل لا كدُعابة. لذا تجدهم يعيشونها بحريّة البالغين وطرافة الأطفال. والمُذهلُ في الأمر كلِّه أنني اكتشفتُ صمودَهم. إنهم يخبّئون آمالَهم الجميلةَ في أدراج المستقبل تحسباً من الانزلاق في طينة الحاضر، وكأنَّ لسان حالهم يردِّدُ ما ردَّده ناظم حكمت قبل مئةِ عام في سجنه التركي:
أجملُ البحارِ ذاك الذي لم نذهب إليه بعد
وأجملُ الأطفالِ مَن لم يكبرْ بعد
وأجملُ أيامِنا تلك التي لم نعشها بعد
وأجملُ ما أُريدُ قولَه ما لم أقلْه بعد
المستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمست
[إيمان شرباتي \ عن لحظة أسمها أيّار 2021] ~ [نوّاف رضوان ’,’ عندما دهستنا الحداثة] قبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلكبناءيخبّئالعجائبالمستقبلك
(13)
أضحيتُ كثيرَ التأمُّل في لياليَّ بعد تفاعلاتي الطويلة هنا، تتقاذفُني في جوف الليل أفكارٌ عديدة وأمنيات. أتعجب وأضحك وأحزن وأبكي. أجد نفسي مذهولاً من صلابتهم أمام قدَرهم السيزيفي القاسي. وأصبح المستقبل يتراءى لي برأسه الطفولي شيئاً أكثرَ بساطةً من كل تعقيداتي الفلسفية التي حبستُ نفسي في قوالبها. كما تجلَّت ليَ السعادةُ ببراءة لا تحتاج إلى استحالاتٍ كثيرة، فأشياء بسيطة، صغيرة، سهلة المنال للكثيرين قادرةٌ على أن تداعب أفراحَنا وتهزَّها من الأعماق.
فالمستقبلُ كما صوّرهُ صديقي الأسير حسام شاهين هو “الأمل”، وللأملِ تجلياتٌ كثيرة. مثلاً أن ننتظرَ القمرَ الأحمرَ جالسين على كُوَّةِ بابِ الزنزانةِ لساعات، حتى نستمتعَ بمشاهدةِ إطلالته للحظات، ولو بواسطةِ المرآة. الأملُ بأن نعيشَ الليلَ دونَ أن تنكمشَ بنا الحياة ُنحو زوايا الدِّفءِ والمحبة، أو خلفَ ستائرِ الوحدةِ والدموع.
الأمل هو:
رغبةُ أن نحتضنَ نجمَ سُهيل بأهدابنا من على سفح الجبل.
توقٌ لأنْ نعانقَ الترابَ بأقدامِنا الحافية..
لذةُ احتساء قهوتك بفنجان مزخرف تنتقيه بعناية، ليشاركك لحظة الغياب.
حُبٌّ يتدفقُ على قلوبنا بعد تعطُّشٍ طويل.
سكينةُ أن تلقى بسمةَ الصباح على يمامة تعشِّشُ على حافّةِ نافذتِك وتتركُها بسلام.
جمالُ أن تتأملَ روعةَ زهرة وتتشكّرها على فرحة عينيك لفرط جمالها.
سعادةُ أن تضحكَ وتصرخ لضحكات وصرخات الأطفال حتى لو لم يكونوا أطفالَك.
دهشةٌ لزُرقة السماء التي تُحبل الغيوم وتلدُ لنا فرحةَ المطر.
المستقبلُ أمنيةٌ بسيطة، طريقٌ علينا مواصلةُ شقِّه بمشقَّةٍ تتطلب
اقتلاع السجن من أعمارنا
والاستعمارَ من أوطاننا
والظلمَ من طموحاتنا وهذا يستدعي منا مواصلةَ القتال، كونُه أداةَ شقِّ الطريق نحو المستقبل ودرعَ حمايته.